ابويوسف
عدد الرسائل : 134 تاريخ التسجيل : 01/05/2008
| موضوع: الصبر والحب وجهان لعملة نادرة الخميس يونيو 26, 2008 11:02 pm | |
| --------------------------------------------------------------------------------
تساءل الناس ومازالوا يتساءلون !! هل الإنسان ذو قدرة على إختيار أفعاله وردود أفعاله ؟ أم أنه - من وجهة نظر البعض - غير قادر على الإختيار ، فهو مجبر على أفعاله ، شأنه شأن سائر الكائنات ، يخلق الله فيها الأفعال ، ولاتنسب إليها إلا مجازا .. كأن يقال أثمرت الشجرة ، وطلعت الشمس وغابت وهكذا .
إن كان الإنسان كذلك ، فلن يكون للعقاب والثواب فى الدنيا والآخرة معنى مفهوما بين الناس . البعض الذى يقول بنفى الإختيار عن الإنسان ، يفهمون عبارة : " كل ميسر لما خُلق له وكُتب عليه " فهما قاصرا رغم صحتها . العبارة صحيحة فى حدود ثلاثة أشياء فقط لاخيار للإنسان فيهم ، وفى حدود تداعيات هذه الأشياء التى لاحيلة له فيها ، فهو ميسر بما كسب منها وكُتب عليه ماخسر عنها . أول هذه الأشياء هو الميلاد ، فالإنسان لايختار وقت ميلاده ، ولايختار أبويه ومااكتسب عنهما من صفات بالوراثة ، ولايختار رزقهما ، كما لايختار بيئة نشأته أو مجتمعه . ثانى هذه الأشياء الموت . وثالثهما الرزق ، فمهما كان سعيه فهو لايختار رزقه فى مساره بين الميلاد والموت ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ، وقال تعالى : " وماتدرى نفس ماذا تكسب غدا وماتدرى نفس بأى أرض تموت " [ لقمان 34] .. صدق الله العظيم .
إذن ماهى الإختيارات المتاحة للإنسان فى مساره بين نقطتى الميلاد والموت ؟ للرد على هذا التساؤل يجب أن نضع فى اعتبارنا : أن الخيارات المتاحة للغنى غير متاحة كلها للفقير ، كما أن خيارات الحاكم غيرها للمحكوم ، وللمتعلم غيرها لغير المتعلم ، وللقوى غيرها للضعيف ، والخيارات فى مجتمع حر ديموقراطى غيرها فى مجتمع مستبد يحكمه غبى متسلط .. .. ولايبقى أمامنا بهذا الشكل إلا إختيارا واحدا متاحا لكافة البشر مع تباين أوضاعهم واختلافاتهم ، وهو الصبر الذى علّمنا الله إياه ونحن نتشكل فى أرحام أمهاتنا ، فتساوى البشر فى ذلك مع اختلافهم ، كما أن تحملنا عناء الضغط والدفع والإختناق عند اكتمالنا وخروجنا من تلك الأرحام هو نوع من التعلم الغريزى للصبر والتحمل ، ثم تنفسنا للهواء الذى لاعهد لنا به ، فنشهق فى صراخ يعبر عن مشقة البداية ، والجهد العنيف الذى نبذله بعد ذلك لكى نحبوا ونمشى فنقع وننهض إلى أن تنتصب قامتنا . أليس كل ذلك وأكثر دروسا فى الصبر يعلمنا إياها خالق الخلق ، فنتساوى جميعا فى ذلك ولاتكون لنا حجة بعد ذلك .. .. ثم تفترق بنا الطرق ، وتتنوع المشاق حتى نلاقيه سبحانه وتعالى : "ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" [ الإنشقاق 6] .. فهذا يكدح فى سبيل الله ، وهذا يتناسى ماعلمه الله إياه من صبر فيتخذ إلهه هواه ويكدح لشهوة أو نزوة فيضل عن سبيله .
الصبر كاختيار فى مسار الإنسان بين ميلاده وموته ، ليس عجزا أمام ذل ، أو ضعفا أمام مهانة ، أو استسلاما لمحنة و ابتلاء ، وليس سلوكا سلبيا متخاذلا فى مواجهة أى باطل . الصبر هو التحمل فى سبيل أداء مايجب على المرء أداؤه ابتغاء وجه الله . وفى اللغة – صَبر أى تَجلّد ولم يجزع ، وصبر على الأمر احتمله . والصبور إسم من أسماء الله الحسنى ، بمعنى أن الله لايعاجل العصاة بالإنتقام ، ومعناه قريب من معنى الحليم ، والفرق بينهما أن المذنب لايأمن العقوبة فى صفة الصبور كما يأمنها فى صفة الحليم ( من لسان العرب لابن منظور ) . قال تعالى : " ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون " [ آل عمران 200] ، " فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وماضعفوا ومااستكانوا والله يحب الصابرين " [ آل عمران 146] ، " إن فى ذلك لآيات لكل صبار شكور" [مكررة فى سورة إبراهيم ولقمان وسبأ والشورى ، آيات أرقام 5 ، 31 ، 19 ، 33 على الترتيب] . الصبّار هو الإنسان الشديد الصبر ، والصبار نبات صحراوى عصارته شديدة المرارة ، وأوراقه عريضة ثخينة دائمة الخضرة كثيرة الماء فيها أشواك . والصُبارة بضم الصاد هى الحجارة الشديدة التماسك ، والصبرة هى مااشتد من تلك الحجارة وغلظ . وفى لغة العرب "أم صبور" هى الهضبة التى ليس لها منفذ ، ومنها وقع القوم فى أم صبور – أى فى أمر شديد (من لسان العرب لابن منظور) .
أرأيت الآن أن كلمة الصبر ومشتقاتها لاتعنى سوى الجلد والقوة والصلابة والجهاد . " ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" [البقرة 250] ، " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين " [محمد 31] .. أى أن الله تعالى جعل الدنيا فى مسارها بين ميلاد الإنسان وموته دارا للإمتحان والإبتلاء لكى يعلم المجاهدين منا والصابرين ، والجهاد صبر ، والصبر جهاد . فما هو جزاء الصابرين ؟ . قال تعالى : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " [الزمر 10] ؛ " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" [الرعد 24] ؛ " أولئك يلقون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما " [الفرقان 75] .. صدق الله العظيم .
وقد رسم الله لنا فى سورة العصر الطريق الوحيد للنجاة من الخسران والضياع فى الدنيا والآخرة .. قال تعالى : " والعصر إن الإنسان لفى خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ونواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " . يقول الشهيد سيد قطب بكتابه (فى ظلال القرآن ) : · التواصى بالحق ضرورة ، فالنهوض بالحق عسير ، والمعوقات عن الحق عسيرة منها هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة وجور الجائرين . والتواصى تذكير وتشجيع ، وإشعار بالقربى فى الهدف والغاية ، وإشعار بالأخوة فى العبء والأمانة ، فالحق لايقوم إلا فى حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة ومتضامنة . والتواصى بالصبر ضرورة ، فالقيام على حراسة الحق والعدل ، من أعسر مايواجه الفرد والجماعة ، ولابد من الصبر .. .. الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير ، والصبر على الأذى والمشقة ، والصبر على تبجح الباطل وتفشى الفساد ، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل وبعد النهاية .. والتواصى بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع .. وإلا فهو الخسران والضياع فى الدنيا والآخرة .
أما عن الحب ، فقد ربط كثير من الشعراء بين كلمة الحب والهوى فى كثير من أشعارهم . وكلمة هَوى فى اللغة تعنى سقط من أعلى إلى أسفل . فهل يقصد هؤلاء الشعراء أن الحب سقوط وانحطاط !! . أم أنهم يقصدون أن الهوى من فعل هوّى بتشديد الواو ، بما يعنى إدخال الهواء النقى إلى المكان أو إلى الحبيب !! . ومهما كان قصدهم فسوف تبقى عبارة " استهوانى فلان " لاتعنى سوى أن فلانا جعلنى أتقبل رأيه وأشتاق لمصاحبته دون أن يكون لدى الدليل على صحة سلوكى هذا واستقامته ، تماما كالذى استهوته الشياطين . قال ابن المقفع قديما أن الهوى هو هوان سُرقت نونه فأكمل شاعر معاصر له قوله قائلا : نون الهوان من الهوى مسروقة ** فإذا هويت فقد لقيت هوان وقال تعالى : " واتبع هواه وكان أمره فرطا " [الكهف 28] أى كان أمره هلاكا وضياعا . إذن فالحب الحقيقى ليس هو هوى النفس الذى يقصده بعض الشعراء ومجانين النساء ، بل هو فى رأيى أسمى أنواع الصبر . فإن كان الصبر جهادا محتوما تفرضه المحنة أحيانا أو الكرامة المجروحة ، فإن الحب صبر بمعنى الجهاد عن رغبة واشتياق لمرضاة الله وسبيله ، ويمكن أن نسميه عندئذ بالصبر الجميل . قال تعالى : " فاصبر صبرا جميلا " [المعارج 5] . فالإنسان الذى يحب الحق حبا حقيقيا لايكتفى بأن لايرضى بالباطل بل يحاربه أينما كان ، والذى يحب الخير يكره الشر ويقاومه ، والذى يحب الجمال يكره القبح ويتجنبه ، والذى يحب النقاء وطهارة القلب يكره العكر فى السلوك وفساد القلوب .. .. أى أن الحب " مواجهة كبرى " كما قال الشاعر نزار قبانى (بصرف النظر عن ماقصده بهذه العبارة فى قصيدته) ، فالحب إبحار ضد تيار الباطل والشر والقبح والجهل وغباء النفس وظلمة القلب وفساد الضمير.
( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) | |
|